أخبار للنشر
رجوعجماز السحيمي.. تاريخ حافل بالعطاء والقيادة الحكيمة
معالي جماز بن عبدالله السحيمي
رئيس مجلس إدارة بنك الخليج الدولي من مايو 2008 إلى نوفمبر 2017
من النادر أن تبرز شخصيات قيادية قادرة على مواجهة التحديات وحل الأزمات، وتتصف بسداد الرؤية والقدرة على تذليل العقبات وتغيير كل ما حولها بجدارة وتمكّن.. لقد كان معالي الأستاذ جماز بن عبدالله السحيمي - رحمه الله - من هذه الفئة من الشخصيات، وصاحب رؤية ثاقبة وقدرة على تحويلها إلى واقع ملموس؛ فقد تحلى جماز بصفات القائد الأمثل، ومن النخب الذين كانت لهم القدرة على تغيير البيئة المحيطة وتحويلها إلى عوامل نجاح لمستقبل مشرق في المنطقة بأسرها.
كما برع جماز في اختيار الأشخاص المناسبين ومنحهم الصلاحيات لتنفيذ رؤيته، وكان شغوفاً بعمله وقوي العزيمة ورجلاً مخلصاً ومحباً لعائلته واشتهر بكرمه وولائه للوطن، فضلاً عن روحه المرحة وحس الفكاهة الذي تمتع به. لقد أسر جماز قلوب وعقول جميع من حوله لسمو أخلاقه وطبيعته المتواضعة.
كان - رحمه الله - علماً بارزاً وسيبقى مثلاً يحتذى بسعة إدراكه وامتلاكه خبرة كبيرة وشبكة من العلاقات على الصعيد الإقليمي والدولي، كما كان يتمتع بذاكرة استثنائية جذبت اهتمام الناس من حوله، وكان شخصية مميزة في إقناع الآخرين. وعلى الرغم من أنه كان يستمتع بمواجهة التحديات، فقد كان سمحاً رحب الصدر أمام منافسيه الذين يصفهم بـ"الأصدقاء". إضافة إلى أنه كان من أوائل الداعمين لتمكين دور المرأة في التطوير المهني، إلى جانب تبنيه أفضل الممارسات في حوكمة الشركات وإدارة المخاطر.
ولعلنا اليوم عند تسليط الضوء على سيرة حياته، نتأمل تجارب ووقفات لإنسان فقدته ساحات العمل المالي والمصرفي، ونطمح أن تستفيد مجتمعاتنا من تجاربه للاقتداء به، رحمه الله.
استمرت مسيرة جماز السحيمي المهنية أكثر من 45 عاماً شغل خلالها مناصب عليا في مؤسسات عامة وشركات خاصة. وتضمنت خبرته في القطاع الحكومي في المملكة العربية السعودية العمل في وزارة المالية وصندوق التنمية الصناعية السعودي ومؤسسة النقد العربي السعودي وهيئة السوق المالية السعودي، أما في القطاع الخاص فقد شغل منصب رئيس مجلس إدارة بنك الخليج الدولي ونائب رئيس مجلس إدارة شركة سنابل للاستثمار وعضو مجلس إدارة البنك السعودي العالمي.
حقق جماز العديد من الإنجازات التي تركت بصمة مؤثرة في القطاع المصرفي المالي، وأهمها تعزيز الأطر الإشرافية ومعايير الحوكمة والبنية التقنية للنظام المصرفي السعودي خلال فترة عمله في مؤسسة النقد العربي السعودي، حيث عمل في بداية مسيرته مدير عام رقابة البنوك في عام 1984م، ثم تولى منصب وكيل المحافظ للشؤون الفنية في عام 1989م، حيث ساهم خلالها في إنشاء المعهد المصرفي التابع للمؤسسة. وقام خلال عمله على تطوير نظام المدفوعات السعودية ورفع كفاءة المدفوعات عبر الشبكة السعودية ما كون بيئة خصبة للبنوك في المملكة لتقديم خدمات متطورة تقنياً لعملائها.
كما شغل بعدها منصب أول رئيس لمجلس إدارة هيئة السوق المالية السعودية في عام 2004م، فقاد عجلة تطوير السوق المالية في المملكة العربية السعودية؛ الأمر الذي مهّد الطريق لإنشاء شركة "تداول" في عام 2007م، كما قام بإقرار لائحة حوكمة الشركات في المملكة، وكان يؤمن بأن الاستثمار الأجنبي في السوق السعودية سيتحقق في نهاية المطاف، وهو ما حدث بالفعل في عام 2015م عندما فتح باب سوق الأسهم لرأس المال الأجنبي بالمملكة.
وفي عام 2008م شغل جماز منصب رئيس مجلس إدارة بنك الخليج الدولي، واعتمد نهجاً جريئاً واستباقياً في تخطي آثارالأزمة الاقتصاديّة العالميّة التي عصفت بالقطاع المالي، وساهم في تحقيق استقرار ميزانية البنك العمومية وقائمة الدخل. كما صحب ذلك عملية إعادة هيكلة بنك الخليج الدولي بما في ذلك هيكله الإداري وبنيته التحتية والتكاليف التشغيلية، وتعزيز أطر وسياسة عمل إدارة المخاطر في البنك. وسيتذكر الجميع أن جماز هو طور نموذج عمل واستراتيجية لبنك الخليج الدولي، والذي تمكن من تحويله إلى بنك دولي رائد في دول مجلس التعاون الخليجي؛ فعلى سبيل المثال تم إطلاق مصرفية الأفراد الرقمية في المملكة بهدف دعم مصادر تمويلية مستقرة وقليلة التكلفة للبنك. كما استثمر جماز في تنمية القوى العاملة وتطوير نظم تقنية المعلومات في البنك. بالإضافة إلى افتتاح فرع للخدمات المصرفية في مدينة أبوظبي. فضلاً عن آخر إسهاماته المتمثلة في الحصول على ترخيص افتتاح بنك محلي في المملكة العربية السعودية والحصول على رخصة مصرفية الأفراد الرقمية في مملكة البحرين.
وعلى صعيد موازٍ، عمل الدكتور عبدالله بن حسن العبدالقادر - نائب رئيس مجلس إدارة بنك الخليج الدولي آنذاك - عن قرب مع الأستاذ السحيمي في إدارة المجلس، وفي حديثه قال الدكتور العبدالقادر: "تشرفت بالعمل مع جماز لأول مرة في عام 2004م، عندما عينت عضواً في أول مجلس لهيئة السوق المالية السعودية، حيث كان للسحيمي دور بارز في عمل هيئة سوق المال كونه استطاع أن يبني علاقة على مستوى عال مع الجهات الرقابية والقطاع المصرفي ويخلق نوعاً من التلاحم في سبيل المصلحة العامة؛ فحقق أفضل النتائج للمملكة العربية السعودية وللمؤسسات المختلفة التي كان يرأسها إذ لم يكن مسؤولاً تقليدياً في المؤسسات العامة، بل كان قائداً تكنوقراطياً معاصراً، فضلاً عن كونه وطنياً يهتم كثيراً بمستقبل القطاع المالي والمصرفي بالمملكة العربية السعودية". وأضاف الدكتور العبدالقادر: "كانت خطواته الأولى بصفته أول رئيس مجلس إدارة والمدير التنفيذي لهيئة السوق المالية السعودية هو إدارة تنظيم وتطوير السوق المالية، وإصدار اللوائح والقواعد والتعليمات اللازمة لتطبيق أحكام نظام السوق المالية بهدف توفير المناخ الملائم للاستثمار في السوق. وكان جماز على استعداد لاتخاذ مواقف حازمة بغض النظر عن عواقب ذلك على علاقاته الشخصية مع ذوي النفوذ المخالفين لنظام السوق المالية ولوائحه التنفيذية".
ويقول الدكتور يحيى اليحيى، الذي شغل منصب الرئيس التنفيذي لبنك الخليج الدولي من يناير 2009م إلى يناير 2016م وعضو مجلس الإدارة منذ عام 2015م، عن جماز: "يمتلك جماز مجموعةً فريدةً من المهارات والصفات الإيجابية التي نادراً ما توجد في شخص واحد. وقد بدأت رحلتي مع جماز عام 1989م عندما كان نائباً لمحافظ مؤسسة النقد العربي السعودي، إذ إستقطبني لإنشاء معهد مصرفي جديد، وقد غير ذلك حياتي المهنية بالكامل؛ إذ انتقلت من الوسط الأكاديمي إلى القطاع المالي، وساعدني أيضاً على معرفة الفرق الحقيقي بين التعليم والتعلم، لقد كان نفسه شغوفاً بالتعلم، ولا يخشى الاعتراف بأنه لم يكن يمتلك كافة الإجابات". وأضاف اليحيى: "فعلى سبيل المثال، عندما كان يتعامل مع أي مشروع جديد كان بارعاً في اختيار أنسب المستشارين أو المرشدين الذين كان يكتسب منهم المعرفة والمعلومات المطلوبة، وكان يصر على اكتشاف ومعرفة الوضع الحالي وأفضل الممارسات والاتجاهات المستقبلية المحتملة. فلو كان لاعب شطرنج لكان بالفعل اللاعب الأفضل فيها، لقد كان دائما متقدماً على غيره بخطوات، ويضع نصب عينيه الهدف النهائي. وبوفاته خسر بنك الخليج الدولي والقطاع المصرفي في المنطقة رمزاً حقيقياً من رموزه المتميزين".
ومن جهته قال الأستاذ عبدالعزيز الحليسي الذي تولى منصب الرئيس التنفيذي لبنك الخليج الدولي في فبراير 2016م، وكان قد تعرف على جماز في البداية عندما كان عضواً في السلطة الرقابية، وبعد ذلك عندما أصبح رئيساً لمجلس الإدارة ثم مرشداً وقائداً: "لقد كان شخصاً ذا رؤية ثاقبة، وتميّز بالفعل كقائد ومبتكر ومفكر استراتيجي، وكان يمتلك رؤية واضحة جداً للخطوة التالية في التطور الاستراتيجي والتجاري لبنك الخليج الدولي، فرسم آفاق طموح عالية للبنك، حيث كان ينظر دائماً إلى المدى البعيد، وكانت تهمه نزاهة وسمعة البنك كثيراً، أما على الصعيد الشخصي، فقد كان جماز مسانداً جداً سواء اتصلت به عبر الهاتف أو عند لقائه شخصياً أو في اجتماعات المجلس، لقد كان حازماً وعادلاً مع الجميع، بغض النظر عن رتبته أو مكانته، كان جماز بالفعل قدوة تحتذى، وسوف أفتقد نصائحه القيّمة ونهجه المبتكر في تنفيذ الأعمال وحس فكاهته الرائع".
إلى ذلك، هذه كلمات ثناء وتقدير من اثنين من أقدم الموظفين العاملين في بنك الخليج الدولي، وهما العضوان الوحيدان في فريق الإدارة التنفيذية اللذان عملا مع جماز السحيمي طوال فترة رئاسته للبنك، وهما بالتالي قادران على التحدث عما حققه من إنجازات في تاريخ بنك الخليج الدولي الطويل.
فوفقاً لما قاله رئيس الشؤون المالية في البنك ستيفن وليامز: كان جماز رائداً ومبتكراً، ومع ذلك كان عملياً جداً وصاحب معايير عالية بصورة استثنائية، وأضاف: "لقد كان يحب جداً العمل لدى البنك، وكان نجاح البنك مهماً جداً بالنسبة له شخصياً، وخلال الأزمة المالية عندما كان مجلس الإدارة يستعرض الخيارات المستقبلية لبنك الخليج الدولي، كان جماز يرى أن هناك طريقاً واحداً فقط، وهو إنقاذ المصرف ووضعه على أساس ثابت للمستقبل، وتضمّن نهجه المكون من خطوتين: حل المشاكل الجوهرية التي واجهها البنك في ذلك الحين أولاً، ثم التطور والتقدم من خلال تبني استراتيجية ونموذج أعمال جديدة. وبصفته رئيس مجلس الإدارة، كان يثير لدي روح التحدي على الدوام حتى أكون ملماً بكل التفاصيل، وكان يتواصل معي بانتظام للحصول على آخر مستجدات الوضع المالي وكل ما يتعلق بأمور البنك. لقد كان العمل معه مميزاً ومشرفاً".
ويقول رئيس إدارة المخاطر مسعود ظفر: "لقد حظي جماز باحترام كبير لنزاهته وفطنته، ورؤيته العميقة، وأضاف: "كان داعماً قوياً لثقافة وإطار إدارة المخاطر في البنك. وعبر القطاع المصرفي الإقليمي كان جماز أيضاً واسع المعرفة بفضل خبرته الغنية في قطاع الخدمات المالية، ودائم الاطلاع على أحدث مستجدات الأسواق والقضايا والاتجاهات الجيوسياسية، لذلك كان عليّ أن أكون دائماً متأهباً ومستعداً عندما كان يتصل بي، إذ كان يفعل ذلك مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، لمناقشة القضايا والموضوعات ذات الصلة بالمخاطر. لقد كان بالفعل شخصاً ذا رؤية قوية والمحرك الرئيس للتطور الاستراتيجي في البنك، وأعتبر نفسي محظوظاً جداً بمعرفته".
أخيراً.. وكما يتضح من كلمات الثناء والتقدير هذه، فإن الإرث الدائم لجماز بن عبدالله السحيمي يشمل مساهمته البارزة والرائدة في قطاع الخدمات المالية الإقليمي، إلى جانب تقديم دروس فريدة في القيادة وإرساء مثال يحتذى به في النزاهة الشخصية. وعمل جماز- الذي كان يتسم بشخصية قوية التأثير- بلا كلل لوضع المملكة العربية السعودية على الخارطة المالية العالمية، والتصدي للانطباعات السلبية حول المملكة في وسائل الإعلام الدولية. وقد وفرت إنجازاته قاعدة مالية ومؤسسية متينة تدعم التنفيذ الحالي للرؤية الاقتصادية الرائدة لعام 2030 وبرنامج التحول الوطني لعام 2020، وتحقق فوائد اجتماعية واقتصادية بعيدة المدى لمنطقة دول مجلس التعاون الخليجي بأسرها في العقود القادمة.. من المرجح أن يكون هذا هو أهم إرث تركه جماز.
غفر الله له ورحمه وجعل ما قدم من عمل خلال مسيرته الحافلة في موازين أعماله وأسكنه فسيح جناته.